خطاب سموه في الدورة الـ 71 للجمعية العامة للأمم المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
سعادة رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة،
سعادة الأمين العام للأمم المتحدة،
السيدات والسادة،
يسرني بداية أن أتوجه بالتهنئة إلى سعادة السيد بيتر تومسون بمناسبة توليه مهام رئيس الدورة الحادية والسبعين للجمعية العامة، متمنيا له كل التوفيق في مهامه.
كما أعرب عن تقديرنا للسيد موغنز ليكيتوفت على جهوده خلال رئاسته للدورة السبعين للجمعية العامة. ولا يفوتني أن أعرب عن بالغ الشكر لسعادة السيد بان كي مون على ما بذله من جهود خلال فترة ولايته لتحقيق أهداف الأمم المتحدة.
الحضور الكرام،
يواجه المجتمع الدولي تحديات جسيمة تتمثل في بعض أزمات إقليمية ودولية غير محلولة أصبحت عائقا أمام التنمية والاستقرار الإقليمي والدولي. وتستمر بعض الدول باتباع نهج العمل خارج نطاق الشرعية الدولية في ظل تقاعس دولي عن تنفيذ قرارات مجلس الأمن. ولم يعد ممكنا تجاهل الضعف في النظام القانوني والمؤسسي لمنظمة الأمم المتحدة، وعجزها في كثير من الحالات عن تطبيق معايير العدالة والإنصاف في آليات عملها.
ثمة نمط متكرر باستمرار في هذه الحالات وهو انتقائية مجلس الأمن في معالجة القضايا، ولا سيما عندما يتعلق الأمر باستخدام الدول للقوة في العلاقات الدولية.
الحضور الكرام،
بعد مرور أكثر من سبعة عقود على الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، لا تزال القضية الفلسطينية تنتظر الحل العادل، ولا تكتفي حكومة إسرائيل برفض قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام الشامل العربية، بل تعمل على فرض سياسة الأمر الواقوع عبر خطط استيطانية طويلة المدى في الضفة الغربية والقدس. وتقيم احتلالها على التمييز والفصل العنصري، إذ تنشئ نظامين حقوقيين في ظل سيادتها، واحدا للمحتلين وواحدا للواقعين تحت الاحتلال.
وفي ظل صمت العالم وانشغال الدول العربية بقضاياها الراهنة قد يعتقد قادة إسرائيل أنهم نجحوا في سعيهم. والحقيقة أنهم فشلوا في حل أي قضية. فالشعب الفلسطيني أكثر تمسكا بحقوقه من أي وقت مضى. ولا يمكن أن تقبل الشعوب العربية بأي نوع من تطبيع العلاقات مع إسرائيل مع استمرار الاحتلال وممارساته، وقبل تحقيق حل عادل للقضية الفلسطينية.
ثم ماذا سوف تفعل إسرائيل بملايين الفلسطينيين الذين يعيشون على أرضهم ويصبحون أكثر عددا وأكثر وعيا في الوقت ذاته؟ الخيارات تضيق فإما حل الدولتين أو إقامة نظام فصل عنصري. وهل تعتقد إسرائيل فعلا أنه يمكنها الحفاظ على نظام فصل عنصري في القرن الحادي والعشرين؟
لقد أضحى إنهاء الاحتلال ضرورة أمنية وسياسية ملحة وواجبا دوليا تجاه شعب احتلت أرضه وصودر وطنه، وتتفاقم معاناته.
يتحمل مجلس الأمن مسؤولية خاصة في فرض الشرعية والإجماع الدوليين بشأن التفاوض على قاعدة حل الدولتين بما يتضمن إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية على حدود عام 1967. وفي هذه الأثناء لا بد من وقف الاستيطان واحترام الوضع القانوني للقدس الشريف، ورفع الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لجميع الأراضي العربية المحتلة بما فيها الجولان السوري.
الحضور الكرام،
سبق أن حذرنا من على هذا المنبر من أن التراخي في معالجة الأزمات يزيد من حدتها وتعقيدها ما يشكل في النهاية خطرا على الأمن الدولي. وها نحن نلتقي بعد مرور أكثر من خمس سنوات على الأزمة السورية، وبعد أن دمر النظام غالبية المدن السورية، وقد تضاعفت أعداد اللاجئين، وغدا اللجوء عابرا للقارات، وأصبحت سورية تستورد المنظمات والمليشيات الطائفية الإرهابية التي تعود بدورها لتشكل خطرا إقليميا ودوليا.
يعرف الجميع أن الثورة السورية بدأت انتفاضة شعبية سلمية الطابع ضد نظام ديكتاتوري قمعي، وأن هذا الشعب العظيم ظل يتعرض للقتل في مظاهرات سلمية وللتعذيب في السجون طوال عام دون أن يدافع عن نفسه.
خلال هذه الفترة حاول النظام السوري جر الثورة إلى العنف بشكل مدروس، كما عمل عبر خطاب سياسي موجه على شق الشعب السوري إلى طوائف ، وكان الشعب يرد بالهتاف "واحد، الشعب السوري واحد"، وكان شعار النظام المعلن "الأسد أو نحرق البلد"، وربما لم يدرك كثيرون أن هذا الشعار هو في الواقع مشروع النظام وبرنامجه الوحيد والحصري.
نظريا وقفت غالبية دول العالم مع الشعب السوري، وعمليا ترك وحيدا يدعمه بعض الأصدقاء المخلصين. ووضعت خطوط حمر للنظام، وقام الأخير بخرقها دون أن يحرك من وضعها ساكنا، وظل الخط الأحمر يتحرك حتى فهم النظام أنه لا يوجد سقف لما يمكنه ارتكابه دون حساب.
صحيح أنه دخلت الساحة السورية قوى متطرفة عنيفة لا علاقة لها بأهداف الثورة السورية، وترفض أن ترفع علمها، وحاربت الثوار أكثر مما حاربت النظام، وحصلت تجاوزات كثيرة، ولكن لا يمكن فهم هذه الظواهر التي أساءت للثورة بدون سياسة القمع الهمجي التي اتبعها النظام السوري وعجز المجتمع الدولي عن حماية المدنيين من الأسلحة الكيماوية والقصف بالبراميل المتفجرة وسياسة التعذيب.
لقد قدمت مدينة داريا نموذجا للثورة السلمية التي بدأت برمي الجنود بالورود، وبعد مذابح كبرى سقط في أحدها (يوم 25 أغسطس 2012) المئات، غالبيتهم من النساء والأطفال، اضطرت مثل غيرها أن تدافع عن نفسها ، ومنذ ذلك الحين تعرضت داريا للقصف المتواصل وحصار التجويع.
لم يسيطر عليها تنظيم تكفيري متطرف، ولم يرتكب ثوارها تجاوزات ، فلماذا انتهى سكانها إلى أن يتفرج المجتمع الدولي على تهجيرهم في عملية تطهير ديمغرافي مفضوحة ؟ لماذا لم يصدر تحذير ضد قصفها وتهجير سكانها كالإنذار الذي صدر ضد قصف قوى أخرى في محافظة الحسكة مؤخرا؟
نحن نعتبر ذلك الإنذار في مكانه، ولكن لم يصدر مثله بشأن داريا ومعضمية الشام ومضايا والزبداني وغيرها من البلدات المهددة بالتهجير؟ هذا ما يتساءل عنه المواطن السوري.
لا نستطيع أن نخدع أنفسنا أو شعوبنا، فمن غير المقبول أن تشل إرادة المجتمع الدولي أمام مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية . وليس صحيحا أن حماية الشعب السوري لم تكن ممكنة. لقد سمح المجتمع الدولي بتدخلات عسكرية غير مشروعة لقلب أنظمة حكم في منطقتنا، وما زلنا نعاني من آثارها حتى اليوم. وكثيرون منا يشتركون في تحمل المسؤولية عن ذلك للأسف ولكن المجتمع الدولي نفسه امتنع عن حماية شعب أعزل، مع أن هذا الشعب أثبت أنه قادر أن يغير نظام الحكم بنفسه لو تمت حمايته من القصف.
أصبح إنهاء هذه الكارثة الإنسانية ضرورة سياسية وأخلاقية تضع على مجلس الأمن مسؤولية تاريخية لا يمكن التنصل منها لوقف نزيف دماء السوريين بوقف القصف الهمجي وحصار المدن تحت شعار "الجوع أو الركوع"، وإعادة المهجرين واتخاذ الإجراءات لاستئناف العملية السياسية في إطار قرار مجلس الأمن رقم (2254) وعلى أساس مقررات جنيف (1) التي نصت على تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات وبما يلبي تطلعات الشعب السوري ويحفظ وحدة سورية وسيادتها، على أساس الحقوق المتساوية لمواطني سورية جميعا دون تمييز على أساس الدين والمذهب والقومية والجنس.
الحضور الكرام،
تتمتع منطقة الخليج بأهمية استراتيجية على المستويين الإقليمي والعالمي وتشهد هذه المنطقة بعض الأزمات المتباينة في سماتها المتشابهة في جوهرها، ولا بد من اللجوء إلى الحوار البناء لإيجاد الحلول لها.
ولكي نصل إلى النتائج المنشودة يجب أن يرتكز الحوار بين الدول على مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.
ويتطلب إنجاح الحوار بين الأطراف داخل الدولة كما هو الحال في العراق تغليب منطق التوافق السياسي والاجتماعي وترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة المتساوية أمام القانون بعيدا عن الطائفية بكافة أشكالها.
وبالنسبة لليمن الشقيق تجدد دولة قطر دعمها عودة الشرعية سبيلا وحيدا لضمان أمنه ووحدته واستقراره، ولا شك أن تقاعس المجتمع الدولي في تنفيذ قرارات مجلس الأمن وبخاصة القرار (2216) منح الفرصة لبعض القوى السياسية في اليمن للقيام بإجراءات انقلابية عرقلت الحل السياسي المنشود الذي يحقق مصلحة الشعب اليمني في الوحدة والاستقرار.
وأنتهز هذه الفرصة لأعرب عن تقديرنا للجهود التي بذلها صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت الشقيقة في رعاية مسار المفاوضات اليمنية التي استضافتها دولة الكويت.
وسنواصل دعمنا لمهمة المبعوث الخاص للأمين العام إلى اليمن، وللجهود الدولية لاستئناف المشاورات السياسية بين الأطراف اليمنية للتوصل إلى تسوية سياسية وفق المبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني وقرار مجلس الأمن رقم (2216).
الحضور الكرام،
على الرغم من أن الوضع في ليبيا الشقيقة لا يزال مضطربا ، إلا أننا نتطلع إلى استعادة الاستقرار عبر الجهود التي يبذلها المجلس الرئاسي والحكومة الحالية، بدعم من المجتمع الدول، والتصدي للإرهاب والتعامل مع آثاره الخطيرة.
لقد أسهمت دولة قطر في إنجاح الحل السياسي الدولي، ونحن نجدد دعمنا لكافة الجهود التي من شأنها أن تعزز التوافق الوطني الليبي، ونحذر من أن عدم الاستقرار سيلحق ضررا بالغا بما أنجز، وسيقوض جهود الأمم المتحدة الرامية لتعزيز التوافق الوطني الذي أكد عليه مجلس الأمن، ونستغرب قيام دول بدعم قوى ترفض الحل الدولي وتعمل على إفشال قرار مجلس الأمن بالقوة مع أن القرار ينص على معاقبة مثل هذه القوى.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه قوات وضعت نفسها تحت تصرف المجلس الرئاسي في مكافحة الإرهاب، انتهزت قوى أخرى رافضة للحل الدولي الفرصة لكي تحتل موانئ تصدير النفط في ظل صمت دولي، هل هكذا نشجع الليبيين على مكافحة الإرهاب؟
السيد الرئيس،
يبقى الإرهاب الذي نواجهه مصدر تهديد لشعوبنا وأوطاننا ومنجزاتنا الاقتصادية والاجتماعية مما يستلزم تكثيف جهودنا في مكافحته.
وندرك جميعا أن النجاح في مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة ليس سهلا لكنه أيضا ليس مستحيلا إذا ما توافرت الإرادة السياسية من خلال معالجة الجذور الاجتماعية لهذه الظاهرة المقيتة وفهم الظروف المساعدة على تسويق أيديولوجيات متطرفة في بيئة اليأس وانسداد الآفاق.
ولكي نحمي الشباب الذي تستهدفه الجماعات المتطرفة، يجب أن لا تقتصر محاربة الإرهاب على البعد الأمني الضروري بحد ذاته، بل تتعدى ذلك إلى إشاعة قيم التسامح وثقافة التعددية والحوار مع الأخذ بعين الاعتبار لحق الشعوب في مقاومة الاحتلال، الذي تكرسه الشرائع والمواثيق والأعراف الدولية.
ولكي يكتسب تثقيف الشباب وتعبئة المجتمعات ضد الإرهاب مصداقية ، علينا أن نكون مثابرين في تحديده واتخاذ الموقف منه. فلا يجوز أن يتغير التعريف حسب هوية الفاعل أو الضحية، أو حسب المصلحة السياسية.
لقد شهدنا حالات كان فيها تنظيم ما إرهابيا حينما كان خصما سياسيا، ثم جرى احتضانه عندما أصبح فجأة حليفا مرحليا.
ولا يجوز التفريق بين حياة المدنيين في إسطنبول وباريس وغزة ونيويورك وحلب وغيرها. فلا توجد حياة ذات وزن نوعي أكبر من حياة أخرى. إن التعامل بمعايير مزدوجة مع هذه الظاهرة، أو ربطها بدين أو ثقافة بعينها، أو إعفاء الحكومات التي ينطبق على سياستها وصف الإرهاب من هذه التهمة، يعقد الجهود لاستئصال الظاهرة، ويقوي الذرائع التي يستخدمها الإرهابيون.
وفي هذا الصدد وانطلاقا من سياستنا الرافضة للتطرف والإرهاب، والمستندة إلى قيمنا وثقافتنا وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف، نؤكد دعمنا للجهود المبذولة في إطار الشرعية الدولية للقضاء على هذه الظاهرة واجتثاث جذورها.
الحضور الكرام،
يشكل احترام حقوق الإنسان وحمايتها وتعزيزها إحدى الركائز الأساسية في مبادئ وأهداف الأمم المتحدة ، وانطلاقا من مبادئنا وقيمنا العربية والإسلامية التي تعلي قيمة الإنسان الذي كرمه الله سبحانه وتعالى حرصت دولة قطر على ترجمة التزاماتها في هذا الجانب على المستويين الوطني والدولي، للدفاع عن الحقوق الفردية والجماعية وتعزيز حقوق الإنسان في العالم.
وفي هذا السياق فإن أحد التحديات في الوقت الراهن، والتي يتحتم علينا جميعا مواجهتها، يتصل بحماية اللاجئين مما يفرض علينا التعاون والعمل المشترك للتغلب على أسباب اللجوء، وهو الأهم، أما تقديم المعونات والمساعدات فهو واجب إنساني ملح وراهن لا بد من القيام به.
لقد امتدت مساهمتنا التنموية والإغاثية إلى أكثر من 100 دولة حول العالم، وما زلنا ننسق مع المنظمات الحكومية وغير الحكومية لتوفير الدعم الإغاثي والتنموي. وتدعم قطر ما يربو على 10 ملايين طفل حول العالم، وتبني قدرات 1,2 مليون شاب عربي ليكونوا فاعلين ومنتجين في مجتمعاتهم. وفي السنوات الخمس الماضية تضاعفت قيمة المساعدات المقدمة من دولة قطر 3 مرات لتصل إلى 13 مليار ريال قطري منذ عام 2011.
الحضور الكرام،
ستبقى دولة قطر فضاء للحوار وحل النزاعات بالطرق السلمية وسوف تظل ملتزمة بالعمل الدولي المتعدد الأطراف، والتعاون والشراكة في إطار المجتمع الدولي لمواجهة التحديات المشتركة للإنسانية.
أشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.