خطاب سموه في الدورة الـ 67 للجمعية العامة للأمم المتحدة
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
أصحاب المعالي والسعادة،
سعادة رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة،
السيدات والسادة،
في البداية أتوجه بالتهنئة إلى سعادة السيد فوك يريميتش لانتخابه رئيساً لدورة الجمعية العامة السابعة والستين متمنياً له النجاح والتوفيق في مهمته.
كما يطيب لي أن أشكر سعادة السيد ناصر بن عبدالعزيز النصر رئيس الدورة السابقة وأحد دبلوماسي قطر الأكفاء على ما بذله من جهد وما أسهم به في سبيل إنجاح عمل هذه الجمعية.
وأغتنم الفرصة لتقديم الشكر إلى سعادة السيد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة على عمله الدؤوب في تعزيز دور الأمم المتحدة.
السيد الرئيس،
السيدات والسادة،
يعيش العالم العربي في هذه الأوقات تجربة شديدة الصعوبة، منذرة بالمخاطـر، ومبشرة بالآمال في الوقت نفسه. وهي في الواقع محاولة تصحيح كبرى، تتلاءم بها أوضاع منطقة لها تاريخ خـاص مع المسار العام لعالم يتغير بسرعة، وهذه تجربة ذات خصوصية مستجدة وغير مسبوقة على طول التاريخ الإنساني، إذ هي مختلفة عن تجارب خاضتها من قبل أمم وشعوب سبقت إلى اللحاق بمتغيرات العصور، وتقبلت مطالبها الضرورية، وتحملت تكاليفها، وهي تعرف أن عليها التوافق مع حركة التقدم والتلاؤم مع زمانها بكل ما فيه من طموحات تدفعها باستمرار نحـو الحرية والاستنارة والتنمية وكرامة الإنسان.
لكن التجربة العربية في الانتقال فريدة في مناخها، وفي إيقاع حركتها ومسيرتها.
إن شواهد الأحوال في العالم العربي تظهر من بعيد قلاقل واضطرابات تعم المنطقة، وتملأ أجـواءها باللهب وبالدخان، لكني أريد –هنا- ومن هذا المنبر أن أطمئن كل الذين يطلون على الساحة ويقلقهم أحياناً ما يرونه ويسمعونه -إلى أن ما يصل إليهم من صوت وصدى- هو حركة أمة تناضل لكي تلحق بعصرها لتساهم في مسيرته، كما أسهمت مرات من قبل أن تحجزها عوائق خارجية وداخلية، دولية وإقليمية، وعطلت إرادتها وانحرفت بمسيرتها، حتى انطلقت أخيراً من ظروف أطبقت عليها وحاصرتها بالديكتاتورية والتبعية والفساد.
إننا نتذكر أن التجربة السياسية والاجتماعية الأمريكية خرجت من حرب أهلية خاضتها مضطرة حتى تحقق وحدتها، وأن أوروبا التي نراها الآن خاضت حروباً عالمية طاحنة حتى وصلت إلى درجة من الوحدة لا يحققها السلاح ولا تفرضها الهيمنة. وفي التجارب الآسيوية كذلك نماذج عظيمة لخروج الأمم إلى عصورها بعد حقب طويلة عاشتها مع مخاض الميلاد الجديد، ثم التقدم والصعود إلى حيث تتجسد الآمال في حقائق واقعية.
إنني أقول ذلك لكي أطمئن كل من يهمه حاضر عالمنا ومستقبله، إلى أن ما يجري عندنا طبيعي وتاريخي.
فمن غير المقبول عقلاً لأي أحد أن يتصور أن حرية الشعوب تتحقق بمجرد أن تطلبها، فالتاريخ الإنساني يشهد أن الشعوب قدمت أرواحها وأموالها لنيل حريتها، وكذلك الأمر فإن الدكتاتورية لا تتراجع بمجرد رؤية طلائع الثورة عليها، وإنما تحتاج إلى مقاومة حقيقية حتى تزول، كذلك الرغبة في التقدم لا تزيل التخلف إلا بالعمل الجاد، كما أن استرداد الأرض المحتلة لن يتحقق برفض الاحتلال فقط وإنما بالتمسك بالحقوق والمقاومة من خلال كافة الأساليب المشروعة.
وقد زاد من مصاعب الانتقال في عالمنا العربي أنه يجري في مناخ مفتوح زاخر بالتطلعات، وفي أجواء مكشوفة على مختلف المؤثرات والتعقيدات، وقد كان على شعوبنا أن تخوض معركة تغيير حياتها في ظروف تختلف كثيراً عما واجهته أمم غيرنا في أوضاع متقاربة، ففي أمريكا وأوروبا، وفي آسيا وغيرها جرت عمليات الانتقال التاريخية داخل حدود مقدرة وشبه محدودة، وأما في الحالة العربية فإن عملية الميلاد والنمو تمت تحت الأضواء وأمام الدنيا بكاملها، وتحت بصر الأقمار الصناعية، وعابرات الفضاء، وفي خضم فعل أدوات التواصل الإلكترونية، وبغير حماية أو حاجز من ضوابط أو حدود.
السيد الرئيس،
إن التدخلات الداخلية والخارجية المناهضة لنيل الشعوب لحقوقها المشروعة لم تعد تتورع عن بلوغ أهدافها بكل الأساليب ابتداء من استغلال رواسب الماضي ومواريثه وعقده، وأساليب الاستفـزاز ومكامنه الخفية، إلى استخدام قوة السلاح وإذكاء بحور الدم إذا عزت عليها الوسائل الأخرى، أو تأخر مفعولها، وكل ذلك جعل عملية الانتقال من الماضي إلى المستقبل ومن التخلف إلى التقدم عملية محفوفة بالأخطار مهددة من كل ناحية.
ولقد كنا مع آخرين بين هؤلاء الذين تنبهوا إلى مزالق هذه المرحلة في مسيرة أمتنا، وفي مسيرة العالم العربي، وإذا جاز لنا أن نطلب في هذه الدورة شيئاً فمطلبنا تشجيع متجدد يؤكد حق عالمنا العربي في مواصلة تقدمه وتحقيق طموحاته، في عالم جديد تحكمه علوم وتقنيات لم تكن في خاطر أولئك الرواد الذين وضعوا المواثيق المعروفة للحقوق والحريات.
وفي المقابل فإني أتمنى أن يصدر عن هذا التجمع العالمي موقف متعاطف مع التحولات التاريخية الجارية في العالم العربي يطمئن شعوباً تمضي بهمة وإصـرار في اتجاه الموقع الذي يليق بها في التاريخ، وتناضل بجد من أجل نيل حريتها وحفظ كرامتها وصولاً إلى غد أفضل وأكثر إشراقاً أمام الأجيال القادمة.
السيد الرئيس،
لقد بلغ الوضع في سوريـا اليوم مراحل لا تحتمل، إذ يسقط مئات السوريين الأبرياء كل يوم بنيران نظام لا يتورع عن استعمال كل أنواع السلاح ضد أبناء شعبه.
وإننا، وقد سلكنا كل السبل من دون جدوى لإخراج سوريا من دائرة القتل، وفشل مجلس الأمن في الاتفاق على موقف فاعل، فإنني أرى أنه من الأولى والأجدر أن تتدخل الدول العربية نفسها انطلاقاً من واجبها القومي والإنساني سياساً وعسكرياً والقيام بما يفرض ويكفل وقف نزيف الدم السوري وقتل الأبرياء وتشريدهم وضمان الانتقال السلمي للسلطة في سوريا. وإن لنا سابقة مماثلة حين تدخلت قوات الردع العربية في لبنان في منتصف سبعينيات القرن الماضي لوقف الاقتتال هناك وكانت تلك خطوة أثبتت فاعليتها وجدواها.
كما نحث جميع الدول المؤمنة بقضية الشعب السوري على المساهمة في تقديم كافة أشكال الدعم لهذا الشعب حتى تتحقق مطالبه المشروعة.
السيد الرئيس،
رغم كل ما تعانيه منطقة الشرق الأوسط، فإن القضية الأساسية تظل القضية الفلسطينية واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، في الضفة الغربية، وهضبة الجولان، ومزارع شبعا في جنوب لبنان، إلى جانب الحصار الخانق المفروض على قطاع غـزة واستمرار اعتقال آلاف الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
لقد توقفت عملية السلام بسبب المواقف الإسرائيلية الحالية التي تصر على المضي بسياسة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية والقدس ورفض التخلي عنها.
وإني لأتساءل أحيانـاً لماذا لا يفعل المجتمع الدولي شيئاً لتنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بقضية الشرق الأوسط، ولماذا لا يصدر مجلس الأمن قراراً تحت الفصل السابع يلزم إسرائيل بفك الحصار عن قطاع غزة ووقف الاستيطان وإعادة عملية السلام إلى مسارهـا الشامل وترك مسار الحلول الجزئية التي لم توصل إلى نتيجة؟ ولا أجد لهذا التساؤل جوابـاً.
السيد الرئيس،
إننا نؤمن إيماناً راسخاً بأهمية حرية التعبير وحق الإنسان في إبداء رأيه انطلاقاً من إيماننا بقدسية إنسانيته وكرامته وقد خلقه الله حراً كريماً. ونحن نؤمن في الوقت نفسه بأن الحرية ينبغي آلا تتجاوز الحدود المعقولة فتصبح أداة للإساءة والانتقاص من كرامة الآخر والتطاول على الأديان والمعتقدات والمقدسات كما شاهدنا في الأيام الماضية، فأزهقت بكل أسف أرواحاً بريئة من دون ذنب أو خطأ.
ودعونا وما زلنا ندعو إلى الحوار بقصد تبادل المعارف والخبرات، ودعونا وما زلنا ندعو إلى حوار بين الثقافات وحوار بين الأديان وأنشأنا مركز الدوحة الدولي لحوار الأديان، ودعونا وما زلنا ندعو إلى حوارات تتعرف بها الأفكار والتجارب هنا على الأفكار والتجارب هناك، وتتعرف بها العقائد على العقائد، حتى نتأكد جميعاً أنها حضارة إنسانية متصلة، شارك الكل في صناعتها، ولا بد أن يشارك الكل في عوائدها، عن فهم وتقدير وعن حق وعلم.
وقد سبق أن شددت في مناسبات سابقة على أهمية هذا الأمر وضرورة الموازنة بين صون واحترام المقدسات والأديان والعقائد وبين حرية التعبير حتى يسود التسامح على التعصب، وحتى يكون قبول الآخر بديلاً عن رفضه بصور نمطية مشوهة تجانب العدل وتنافي الصواب.
وإنني أنتهز اليوم هذه المناسبة مرة أخرى لأناشد الأمم المتحدة وأهل العقل والحكمة وأصحاب القرار على الصعيد العالمي، وضع قوانين وإجراءات وضوابط متفق عليها عالمياً، تمنع الإساءة إلى الأديان والمقدسات والتطاول عليها تحت أي ذريعة كانت وتحفظ في الوقت نفسه حق الإنسان في المعرفة والتعبير عن رأيه.
السيد الرئيس،
إن أحد التحديات الكبرى التي يتحتم علينا مواجهتها هي مسألة التغيير المناخي والآثار السيئة والمدمرة المترتبة عليها بالنسبة لكافة الدول، مما يفرض علينا التعاون والعمل المشترك وتجاوز الخلافات للوصول إلى أنجح الحلول لمواجهة هذا التحدي.
وهنا أشير إلى أن دولة قطر سوف تستضيف المؤتمر الثامن عشر للدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية لتغيير المناخ (COP18)، وتكمن أهمية هذا المؤتمر في رسم خارطة طريق لمواجهة الآثار السلبية لهذه الظاهرة.
وأغتنم فرصة هذا المنبر الدولي للترحيب بجميع دول العالم للمشاركة في هذا المؤتمر حتى يتسنى الوصول إلى توافق دولي في هذا الشأن.
السيد الرئيس،
قبل أن أختم، أود أن أرحب بانتخاب الأخ حسن شيخ محمود رئيساً لجمهورية الصومال، متمنياً له كل التوفيق والنجاح في تحقيق الأمن والاستقرار في بلده الذي طالت معاناة شعبه، وإني أدعو المجتمع الدولي إلى بذل المزيد من الجهود لمساعدة الصومال على التوصل إلى حل لأزمته يرضي جميع الأطراف الصومالية، ويمهد لإعادة السلام إلى الصومال وإعماره وبناء دولته بعد سنوات طويلة من الحرب والدمار.
وشكراً لكم.