خطاب سموه في افتتاح الدورة الـ41 لمجلس الشورى
بسم الله وعلى بركة الله أعلن افتتاح الدورة الحادية والأربعين لأعمال مجلس الشورى،
حضرات الإخوة الكرام أعضاء مجلس الشورى،
في بداية دورتكم التشريعيّة، وكعهدنا في كل عام، نلتقي لنستعرض معاً مسيرة تطور دولة قطر في عام مضى، ولأتحدث إليكم حول جهودنا لخدمة وطننا وتحقيق المزيد من التقدم والرخاء لشعبنا.
وفي ظروف مثل ظروف دولة قطر، وعالمنا العربي عموماً، لا مجال للارتكان إلى العادة والتكرار، فمجتمعنا واقتصادنا بحمد الله في نمو متسارع، ونتيجة لذلك فإن مطالب الناس تزداد وتتنوع, وتبرز معها الحاجة إلى أن يترافق النمو السريع مع تنمية بشرية تتلاءم وإيقاعه، خاصة وأننا نعيش في خضم تحولات تاريخية ووضع دولي وعربي عاصف.
وتفرض هذه الظروف التي يتسم بها اقتصاد بلادنا علينا إيقاعاً سريعاً في العمل، وإبداعاً في التفكير، وفي أدوات التشريع والإدارة.
إننا نعمل ونُصْبَ أعيننا مصالح المجتمع والإنسان القطري، وندرك في الوقت ذاته أن مهمة قيادة الدولة هي تدبير شؤون البلاد في الحاضر، والنظر إلى المصالح بعيدة المدى, والتفكير بمستقبل الأجيال القادمة انطلاقاً من رؤيتنا بأنّ التنمية الشاملة ينبغي ألا تقتصر على الجانب الاقتصادي.
ومع أن النمو الاقتصادي هو شرطها الأكيد، فإن التنمية الشاملة لا تتحقق إلا بالاستثمار الجاد في التعليم المتلائم مع حاجات العصر، والاهتمام بالبيئة والصحة الإنسانية والاجتماعية وتنويع مصادر الدخل، وغيرها من الأمور التي لا يدوم النمو الاقتصادي من دونها. ومن ناحية أخرى فإن التخطيط الطموح لبناء مجتمع عصري منتج ومبدع يتطلب استقراراً سياسياً, كما يستوجب تفاعلاً مثمراً مع القيم والتقاليد الأصيلة لبلادنا ومع الثقافة العربية التي تجمعنا بمحيطنا، والقيم الإسلامية والإنسانية المتأصلة فينا والتي تجمعنا بدوائر إنسانية أوسع.
الإخوة الكرام،
لقد حافظت قطر في العام الأخير على معدلات النمو الاقتصادي المتميّزة التي حقّقتها في السنوات القليلة الماضية, لتتصدر قائمة الدول الأعلى نمواً في العالم. وفي ظروف تداعيات الأزمة المالية التي لا تزال تضغط على الأداء الاقتصادي في عدد من المناطق حول العالم، تجاوز أداء قطر هذه التداعيات بخطواتٍ محسوبةٍ وراسخة. فقد بلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لسنة 2011 (14,1%). كما ازداد الناتج المحلي الإجمالي الإسمي بمعدل (36,3%) مدفوعاً بالزيادات في أسعار المنتجات الهيدروكربونية.
وقد بدأت العديد من مشاريع صناعات النفط والغاز والبتروكيماويات تُؤتي ثمارها من العائدات المالية, نظراً للقيمة المضافة العالية التي تتمتع بها هذه الصناعات، بينما ساهم قطاع الخدمات بالنسبة المتبقية. ومرة أخرى حلت قطر في المرتبة الأولى بين الدول العربية ودول الشرق الأوسط، وللعام الثالث على التوالي، بحصولها على الترتيب الحادي عشر في تصنيف التنافسية العالمية 2012، والذي يعكس ثقة المستثمرين في الاقتصاد الوطني.
وبالنسبة للوضع المالي القطري، فقد روعيت التطورات الاقتصادية العالمية متمثلة بمشاكل منطقة اليورو والتغيرات الإقليمية وتباطؤ الاقتصاد العالمي واحتمالات انخفاض النمو في الدول الناشئة. ونحن على استعداد كامل للتعامل مع كافة النتائج المحتملة لهذه التطورات بما في ذلك انعكاسها على أسعار النفط. لقد أُعدت ميزانية قطر على سعر 65 دولار لبرميل النفط. وعلى هذا الأساس زاد الإنفاق الاستثماري الحكومي إلى 61,8 مليار ريال، أي ما نسبته 35 بالمئة من إجمالي المصروفات العامة، وذلك لغرض الاستثمار في مشاريع كبرى طويلة الأمد متعلقة بالبنية التحتية للبلاد مثل الميناء والمطار وغيرها. وسيكون لهذه المشاريع دور في رفع معدلات نمو الاقتصاد وتحفيز الاستثمارات. ولقد انخفض التضخم العام والتضخم الأساسي في الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام، وبلغ المعدل العام السنوي للتضخم في نهاية شهر أبريل هذا العام (1,1%) فقط، في حين انخفض التضخم الأساسي إلى (3,7%).
كما تتضمن موازنة قطر 2012 – 2013 استثمارات في قطاعي الصحة والتعليم بزيادة (114%) في مخصصات الصحة و(35%) في مخصصات التعليم للسنوات الثلاث القادمة، ونأمل أن تحقق هذه الزيادة نقلة نوعية في مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة في هذين القطاعين. ونحن ندرك الحاجة المتزايدة إلى توفير خدمات أفضل وأوسع، ومع ذلك أود أن أذكركم أن النمو الاقتصادي المتسارع وحاجات تطوير دولة قطر, استوجبت زيادة في عدد السكان بلغت ما يقارب أربعة أضعاف ما كان عليه سكان دولة قطر قبل خمسة عشر عاماً. وأنتم تعرفون ماذا تعني هذه الزيادة السكانية من حيث الحاجة إلى المستشفيات والمدارس والطرق والبنى التحتية. فلا يمكن بناء دولة قطر مجتمعاً واقتصاداً ومؤسسات من دون هذه الزيادة السكانية التي تتضمن خبرات ووظائف وعمالاً وخدمات وغيرها، وهذا أمر طبيعي. ومع أنه كان من الصعب تطوير الخدمات بنفس الإيقاع الاستثنائي في الزيادة السكانية في سرعته، فإننا أنجزنا الكثير. ومع ذلك لا بد من رفع نوعية الخدمات وتوسيع نطاقها. ولا أعتقد أن التزايد السكاني سيستمر بنفس الإيقاع في المستقبل، لذلك كان العقد الأخير هو عقد التأسيس وعقد القفزة الاقتصادية والتنموية. وقد راجعت معكم في افتتاح جلسة العام الماضي محطات في هذا المسار التاريخي منذ منتصف تسعينات القرن الماضي.
نحن ندرك الحاجة المتزايدة إلى خدمات أفضل كمّاً ونوعاً، كما ندرك ضرورة أخذ المعايير المؤسسية والجودة والجدوى، ومعايير السلامة البيئية، والمواصفات والمقاييس بالاعتبار.
ولا بد من تعلم الدرس من الأخطاء، مثل ما وقع في مجمع فيلاجيو التجاري هذا العام، إذ لا يمكن منع وقوع الأخطاء الإنسانية والحوادث، ولكن يمكن أخذ الاحتياطات ووسائل الوقاية اللازمة لتجنب وقوعها أو على الأقل تخفيف الأضرار الناجمة عن وقوع ما لا يمكن تجنبه.
الإخوة الكرام،
يتطلب تحقيق رؤية قطر الوطنية 2030 إدارة سليمة ومتقدمة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية تلتزم بها قطاعات الدولة كافة، حتى نضمن معدلات مرتفعة ومستدامة للنمو ونستبق في الوقت ذاته التغيرات ونتعامل معها ليس لحماية الاقتصاد القطري من آثارها السلبية فحسب, بل لتحقيق أقصى استفادة ممكنة أيضاً، ويتطلب هذا الأمر عملاً مؤسسياً شاملاً ينسق بين أذرع الاقتصاد المختلفة من أجل تعزيز الاستقرار في الاقتصاد الكلي، وتعزيز نمو القطاعات الاقتصادية خارج القطاع الهيدروكربوني، ومنع الازدواجية والتكرار والحلقات الوسيطة البيروقراطية التي تعيق التخطيط والتنفيذ. كما يجب مضاعفة الجهود لتحقيق أفضل استثمارات في قطاع الهيدروكربون وغيره في البلاد والخارج لفائدة الأجيال القادمة، بحيث تزداد نسبة الإيرادات من استثماراتنا في ميزانية الدولة.
وما ينطبق على نشاطنا الاقتصادي ينطبق أيضاً على هيكلة الجهاز الإداري للدولة. إذ لا بد من إزالة أوجه التعارض والازدواج بين الإدارات الحكومية المختلفة، فالتعارض والازدواجية يعني تبذير أموال وتكدساً وظيفياً، كما يعني تعقيد المعاملات على المستثمر وعلى المواطن. ولا يجوز أن تكون هنالك ازدواجية في بعض المجالات، وأن توجد في الوقت ذاته مجالات هامة ورئيسية من دون مؤسسات حكومية تغطيها. يجب التغلب على هذه العوائق، ولو تطلب الأمر إعادة هيكلة للقطاع الحكومي. كذلك لا بد من دعم وتفعيل نشاط القطاع الخاص ودوره في الاقتصاد، ومنع الاحتكار الذي يعيق عمله لأنه يتناقض مع الاقتصاد التنافسي.
صحيحٌ أننا دولة غنية بإيراداتها وطموحات شعبها وقدراته، ولكننا أيضاً دولة ذات رؤية، ولهذه الحقيقة جذور في تاريخنا ومجتمعنا. لقد كانت قطر دائماً عربية الانتماء، كما كانت دائماً كعبة المضيوم. وقد حافظ المجتمع القطري على هذه القيم والتقاليد بعد أن أسبغ الله عز وجل علينا بمزيد من النعم, وبعد أن أصبحت قطر في المراتب الأولى عالمياً في معدلات النمو، فلم ينس مجتمعنا أصوله وتراثه والقيم التي جسدها عبر تاريخه الطويل.
الإخوة أعضاء مجلس الشورى،
لم يكن ممكناً أن تنطلق دول الربيع العربي نحو سيادة القانون وحقوق المواطن والرخاء والحكم الرشيد من دون تجاوز مرحلة الاستبداد، مهما كانت تعقيدات المرحلة الانتقالية التي تمر بها. هذه هي القضية الأساسية.
ليس لدولة قطر أجندة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية في أي دولة أخرى، عربية أو غير عربية. وليس لدينا تصور على الإطلاق عما يجب أن يكون عليه نظام الحكم في أي دولة أخرى، ولكن ما أثار حنق بعض أصوات الماضي هو أمران أساسيان. الأمر الأول هو أننا وقفنا مع الشعوب المظلومة حينما تعرضت للقمع الوحشي إلى درجة لا يمكن احتمالها، ولا يجوز الصمت بشأنها، وثانياً أن في دولة قطر رؤية وإعلاماً عربياً مستقلاً لا يمكنه أن لا يغطي الأحداث بموضوعية.
أيها الإخوة،
لقد تغيرت مصر الشقيقة، وفيها الآن نظام منتخب، وهي تشق الآن طريقها نحو التحول الديمقراطي والتطور الاقتصادي. وحين تنهض مصر سوف تنهض معها الأمة العربية كلها.
ولا بد هنا من أن أشيد بجهود الإدارة الجديدة في مصر بقيادة الدكتور محمد مرسي من أجل كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، ولا بد لهذه الجهود أن تشجع الإخوة العرب على القيام بخطوات من شأنها المساهمة في رفع معاناة أهلنا في القطاع وتنفيذ وعودهم بإعماره.
وفي تونس الشقيقة أصبح هناك اليوم نظام تمثيلي ديمقراطي قطع شوطاً في إعداد دستور جديد، وفي بناء تيار مركزي يؤكد على المواطنة كعقد اجتماعي.
وكذلك الأمر في ليبيا التي وقفنا معها من أجل تحقيق طموحات الشعب الليبي.
أما في اليمن الشقيق فإننا نتضامن مع الشعب اليمني وجهوده في الانتقال إلى الديمقراطية مع معرفتنا بتعقيدات الأوضاع هناك وثقتنا بقدرة الشعب اليمني وقواه السياسية وحكمة أبنائه في تجاوز المصاعب.
ولست بحاجة لأن أذكركم بصعوبة الأوضاع في سوريا حيث يعاني الشعب السوري الشقيق من نظام اختار أن يواجه المطالب المحقة بالقوة منذ أن خرج الشعب السوري مدافعاً عن كرامته بشكل سلمي. لقد طالت معاناة الشعب السوري أيها الإخوة، مع أن العالم كله يدعم مطالبه العادلة.
ونحن نؤكد في هذا السياق على مسؤولية مجلس الأمن عن استمرار معاناته. كما ونحمل الجامعة العربية مثل هذه المسؤولية، بل ونحملها مسؤولية أعظم. أليست أمتنا كما جاء في الحديث الشريف كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء؟
فماذا بشأن سوريا وهي في القلب من الجسد العربي، ألم يصل دول الجامعة العربية صدى صراخ أيتام سوريا وثكلاها وأراملها وهي تهز أركان هذا الوطن العربي؟
وفي هذه المناسبة نود أن نعرب عن تقديرنا للدول التي آوت اللاجئين السوريين، ولكننا في الوقت ذاته نعرب عن أسفنا واستغرابنا من المعاناة التي يتعرضون لها بسبب ممارسات مهينة ترتكب بحقهم في أماكن اضطروا للجوء إليها بحكم صلات الدم والجوار. فمن المفروض في مثل هذه الظروف أن تخفف الدولة المضيفة من مذلة اللجوء، وإشعار السوري حين يحل في أي دولة عربية أنه في وطنه.
أيها الإخوة،
في هذه الظروف العربية المعقدة تبقى قضية فلسطين قضية العرب المركزية وإن بدا وكأنها أقصيت جانبا لانشغال الشعوب العربية بأوضاعها وحقوقها.
ولكن علينا أن نذكر أن فلسطين كانت في قلوب الشعوب العربية حين خرجت للمطالبة بالتغيير، وأن تقاعس الأنظمة العربية تجاه قضية فلسطين هو أحد أسباب الغضب الشعبي. ويجب أن لا تنسى ذلك حكومة إسرائيل التي تعمل بقصر نظر عندما تستغل هذه الأوضاع لتكثيف الاستيطان. بل وخطر لرئيس حكومة إسرائيل نتنياهو أن يقترح تعديل وضع الضفة الغربية إلى أرض غير محتلة بحيث يصبح الاستيطان فيها خاضعاً رسمياً للقانون الإسرائيلي من دون الأخذ بعين الاعتبار وضعها الدولي كمنطقة محتلة. والحقيقة أن مصائر الشعوب لا تحدد بقرار إسرائيلي، وليس من حق إسرائيل أن تحدد مصير الأراضي التي تحتلها. والمستوطنات الإسرائيلية كلها غير شرعية بغض النظر عما تطلق عليها الحكومة الإسرائيلية من تسميات، وهذا ينطبق على القدس وعلى الجولان وعلى مزارع شبعا.
لن يضيع هذا الحق، ولن تتخلى الشعوب العربية عنه، بل ستطالب به بقوة وإصرار أشد من السابق. وليس لدينا شك في أن قدرتها ومكانتها الدولية المتنامية سوف تمكنها من استعادته.
وأغتنم هذه المناسبة لأدعو إخوتنا الفلسطينيين للمصالحة وتوحيد جهودهم في إعادة بناء منظمة التحرير، وفي توحيد مؤسسات السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة بالذات. فالحقيقة أن حالة الانقسام لم تعد مفهومة لأحد، ولا بد من تجاوزها. فلا توجد عملية سلام يمكن الانقسام حولها، ولا توجد استراتيجية تحرير مقاومة يمكن الانقسام حولها.
القضية الآن هي الحفاظ على الوحدة الوطنية الفلسطينية والحفاظ على مركزية قضية فلسطين عربياً ودولياً، ومنع إسرائيل من استغلال الفراغ القائم. وعلى هذا يتوحد الفلسطينيون. ومن هنا لا نرى خلافاً سوى خلافات نظرية قياساً بأوضاع الشعب الفلسطيني، ولا تبرر انقساماً.
الإخوة الأعزاء،
تواصل دولة قطر جهودها لتعزيز التعاون مع أشقائنا في الخليج على المستويات السياسية والاقتصادية، وفي تطوير آليات عمل مجلس التعاون الخليجي. ولقد دعمنا مؤخراً مبادرة أخي خادم الحرمين الشريفين في تحقيق الوحدة على أساس الروابط الأخوية والقواسم المشتركة التي تجمعنا.
ونحن إذ نشيد بهذه المبادرة الكريمة ونشكر خادم الحرمين الشريفين عليها نرى أنه بالإمكان البدء فعلاً بتوحيد العملة الخليجية والتنسيق في قضايا الأمن المشترك. أما بالنسبة لحرية حركة المواطنين بين الدول فقد أنجزنا الكثير حتى الآن. ونحن نعتقد أن الأهداف التي أتحدث عنها هي أهداف ممكنة وواقعية إذا توفرت الإرادة الصادقة لتحقيقها.
وبالنسبة لأمن الخليج عموماً، فنحن كما تعلمون نرفض حل الخلافات بالقوة، ونطالب دائماً بحلها بالحوار. هذه مصلحتنا وهذه أيضاً مبادئنا. ونرى أن حل أي خلافات مع إيران يجب أن يكون بالحوار وبالطرق السلمية.
الإخوة الأعزاء،
حقبة جديدة تبدأ في الوطن العربي من محيطه إلى خليجه. وقطر المتطلعة نحو المستقبل والمتجددة باستمرار متصالحة مع نفسها ومع قيمها ومنسجمة في مسيرتها مع حركة التاريخ نحو مستقبل أفضل.
وتبقى مصالح المجتمع والإنسان القطري في مقدمة أولوياتنا واهتماماتنا.
وفقكم الله في مهامكم في الدورة الحادية والأربعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.