خطاب سمو الأمير المفدى في افتتاح دور الانعقاد السنوي الـ 52 لمجلس الشورى
بـسـم الله الــرحـمـن الـرحـيــم
الإخـوة والأخــوات أعـضـاء مـجـلـس الـشـورى،
يسعدني على الدوام أن أرحب بكم في بداية دور الانعقاد السنوي لـمجلسكم الـموقر متمنياً لكم كل التوفيق والسداد في القيام بـمهامكم الـجليلة.
كما أحيي عملكم التشريعي الدؤوب، وأنوه بـمشاركتكم الفعالة في الـمؤتـمرات والاجتماعات التي تعقدها الاتحادات والـمنظمات البرلـمـانية الإقليمية والدولية لـمتابعة التطورات التشريعية على الـمستوى الدولي.
الإخــوة والأخـــوات،
مع أننا اعتدنا على التركيز في لقائي السنوي معكم على القضايا الداخلية، اسمحوا لي هذه الـمرة أن أبدأ بالأوضاع في فلسطين. فأشقاؤنا الفلسطينيون يعيشون ظروفاً عصيبةً تفوق التصور.
ولا يجوز السكوت عن القصف الهمجي غير الـمسبوق الذي يتعرض له الـمدنيون في قطاع غزة، إحدى أكثر الـمناطق اكتظاظاً بالسكان في العالم، ولا تجاهل الأعداد الـمهولة من ضحاياه الأبرياء من الأطفال والنساء.
تعلمون جميعاً أننا دعاة سلام، وأننا نتمسك بقرارات الشرعية الدولية والـمبادرة العربية وغيرها، وأننا ضد التعرض للمدنيين الأبرياء من أي طرف، وأياً كانت جنسيتهم. ولكننا لا نقبل الكيل بـمكيالين، ولا التصرف وكأن حياة الأطفال الفلسطينيين لا تحسب، وكأنهم بلا وجوه ولا أسماء. ما يجري خطير للغاية، بـما في ذلك الدوس على جميع القيم والأعراف والشرائع الدينية والدنيوية، وليس على القانون الدولي فحسب، والتصريح الإسرائيلي العلني بالنوايا غير الشرعية مثل التهجير وغيره.
نحن نقول كفى. لا يجوز أن تـمنح إسرائيل ضوءاً أخضر غير مشروط وإجازةً غير مقيدة بالقتل، ولا يجوز استمرار تجاهل واقع الاحتلال والحصار والاستيطان. ولا يفترض أن يسمح في عصرنا باستخدام قطع الـماء ومنع الدواء والغذاء أسلحةً ضد شعب بأسره. نحن ندعو إلى وقفة جادة إقليمياً ودولياً أمام هذا التصعيد الخطير الذي نشهده والذي يهدد أمن الـمنطقة والعالم، وندعو إلى وقف هذه الحرب التي تجاوزت كل الحدود، وحقن الدماء وتجنيب الـمدنيين تبعات الـمواجهات العسكرية، والحيلولة دون اتساع دائرة الصراع.
ونود أن نسأل الـمصطفين خلف الحرب، والذين يعملون على إسكات أي رأي مخالف: ماذا بعد هذه الحرب؟ هل ستجلب الأمن والاستقرار للإسرائيليين والفلسطينيين؟ وأين سيذهب الفلسطينيون بعدها؟ الشعب الفلسطيني باق، وكذلك معاناته في ظل الاحتلال والحصار والـمصادرة والاستيطان. لا تقدم الحرب حلاً من أي نوع. كل ما سوف يحصل هو تفاقم الـمعاناة وازدياد عدد الضحايا، وكذلك الشعور العميق بالغبن. وسوف تنشأ أجيال من الأطفال الذين مروا بهذه التجربة الـمروعة، بـما فيها صمت الـمجتمع الدولي على قتل إخوتهم وأترابهم. إن السبيل الوحيد لضمان الأمن والاستقرار للشعبين هو ما يتم تجنبه حتى الآن، وهو تحقيق السلام العادل والدائم وحصول الشعب الفلسطيني على كامل حقوقه الـمشروعة التي أقرتها الهيئات الدولية، بـما فيها إقامة دولته الـمستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
الإخــوة والأخــوات،
وعلى الصعيد الـمحلي، ورغم الصعاب التي يعاني منها الاقتصاد العالـمي وتأثيرها السلبي على اقتصاديات العديد من الدول، واصل الاقتصاد القطري نـموه خلال الربع الأول من هذا العام، حيث تشير البيانات الأولية إلى نـمو إجمالي الناتج الـمحلي بالأسعار الثابتة بنسبة 2.7% مقارنةً بالفترة الـمماثلة من العام الـماضي.
ويدعم مشروع توسعة إنتاج الغاز، واستراتيجية التنمية الوطنية الثالثة النظرة الـمستقبلية الإيجابية للاقتصاد الـمحلي، وستقوم الدولة بتخصيص الـموارد اللازمة لتنفيذ مبادرات ومشاريع استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة بالإضافة إلى الـمشروعات الرئيسية ذات الأولوية لتعزيز الفرص الـمتاحة أمام القطاع الخاص.
وقد أدى الارتفاع في أسعار الطاقة عن السعر الـمعتمد في الـموازنة العامة للدولة، إلى تحقيق فائض خلال النصف الأول من العام. وسوف يستخدم هذا الفائض في خفض الدين العام وزيادة الاحتياطيات الـمالية للدولة. وقد تـمكنا من خفض مستوى الدين العام من قرابة 73% من إجمالي الناتج الـمحلي في عام 2020 إلى ما دون 40% في نهاية النصف الأول من عام 2023. وهذا إنجاز مهم على مستوى صحة اقتصادنا الوطني واستقراره.
وقد أثبتت هذه السياسة فاعليتها حيث ساهمت في رفع التصنيف الائتماني للدولة، وتغيير النظرة الـمستقبلية من مستقرة إلى إيجابية.
وستستمر الدولة في اعتماد أسعار نفط متحفظة للموازنة العامة، بالإضافة إلى تعزيز جهود تنويع مصادر الدخل من خلال استثمارات الدولة في قطاعات اقتصادية متنوعة في الخارج والداخل، ومن خلال تشجيع القطاع الخاص.
لقد ساهمت السياسة الـمالية والاقتصادية والإجراءات الـمتبعة في خفض معدل التضخم من 5% في عام 2022 إلى 3.6% للنصف الأول من عام 2023. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى انخفاض معدل التضخم في دولة قطر خلال الـمدى الـمتوسط ليبلغ 2%.
وتتخذ الدولة، على الـمستويين التشريعي والإداري إجراءات عدة لتعزيز الانفتاح الاقتصادي والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وحماية حقوق الـملكية الفكرية، ودعم تنافسية الـمنتج الوطني، والتحول الرقمي.
سوف تولي الدولة، خلال الفترة الـمقبلة، اهتماماً بالغاً بتطوير بيئة الأعمال وجذب الاستثمار وتحقيق الفائدة من البنية التحتية الـمتاحة. فقد نجحت الدولة خلال السنوات الأخيرة في تطوير بنية تحتية متكاملة تعزز من تنافسيتها في جذب الاستثمارات.
وتواصل الجهات الـمختصة تفعيل بنود قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين الحكومي والخاص في جميع الـمشاريع ذات العلاقة، بـما في ذلك الـمنشآت الصحية والتعليمية والسياحية. كما أن هناك آليةً مستمرةً في الدولة لتطوير التشريعات الـمنظمة للاستثمار الأجنبي لإزالة الـمعوقات التي تواجه ذلك الاستثمار، وإبراز قطر على الصعيد الدولي كحاضنة للاستثمار الدولي الـمباشر.
والـمطلوب هو تغيير بعض الأمزجة والـمقاربات البيروقراطية السلبية باتجاه الانفتاح للاستثمارات وتشجيع الشركات الناشئة، وإيجاد البيئة الـمؤسسية الـمرحبة بها والـمشجعة للنجاح.
ثمة ثغرات قانونية يجب سدها، ومعوقات يجب إزالتها مثل عدم وضوح الإجراءات، وأحياناً جهل الـموظفين أنفسهم بها، والتضارب بين الهيئات. وهي أمور يـمكن حلها بسهولة. وفي النهاية توجد هنا دولة واحدة وسلطة تنفيذية واحدة.
الإخــوة والأخــوات،
استكمالاً لـمسيرة التنمية، شارفت عملية إعداد استراتيجية التنمية الوطنية الثالثة على الانتهاء، ونظراً لأن هذه الاستراتيجية قد تـمحورت حول ركائز رؤية قطر الوطنية 2030 وهي التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، فقد تم إشراك كافة الجهات ذات العلاقة في إعدادها.
ومن هنا أود أن أؤكد أن النمو الاقتصادي يعتمد بشكل كبير على مدى الاستثمار في رأس الـمال البشري، خصوصاً العاملين في الـمؤسسات الحكومية، لتمكينه من التعامل والتفاعل مع الاقتصاد العالـمي القائم على الـمعرفة والتنافسية.
وفي هذا السياق تعتبر البيانات الإحصائية الـموثوقة أداةً هامةً في تحديد الاحتياجات الحقيقية الحالية والـمستقبلية للدولة. وقد آن الأوان لإنجاز قاعدة بيانات مركزية متكاملة تلبي الاحتياجات الوطنية من البيانات بكفاءة وبدرجة عالية من الـموثوقية. وقد بدأ العمل على بنائها وعلى أن تنجز وفق آجال محددة.
وخلال تنفيذ خططها ومشاريعها التنموية أولت الدولة أهميةً خاصةً للحفاظ على البيئة والوفاء بـمتطلباتها. وشمل ذلك زيادة الـمساحات الخضراء كجزء من التضامن العالـمي لـحماية البيئة في إطار مبادرة الشرق الأوسط الأخضر، وبناء محطات معالـجة الـمياه، وإعداد برنامج وطني متكامل لإدارة النفايات وتحويلها إلى طاقة نظيفة، والارتقاء الـمستمر بجودة الحياة.
وفي مجال الارتقاء بالـمنظومة القضائية، تحقق المبادرة الوطنية لتطوير أنظمة العدالة تقدماً في بلوغ الأهداف الـمرجوة منها في مجال العدالة الناجزة، ونتطلع إلى تحقيق الـمزيد من التحسين مع صدور بعض التشريعات التي وافق عليها مجلسكم الـموقر في دور الانعقاد السابق مثل قانون السلطة القضائية وقانون النيابة العامة وغيرهما من القوانين ذات الصلة.
واستكمالاً للبنية التشريعية القضائية ستعرض عليكم في دور الانعقاد الحالي مجموعة أخرى من مشروعات القوانين الهامة التي تسهم في تطوير القضاء وتحقيق العدالة الناجزة.
الإخــوة والأخــوات،
فيما يتعلق بسياستنا الخارجية، فإننا نسعى كما تعلمون وفي إطار الـموازنة بين مبادئنا ومصالـحنا وانتمائنا لبيئتنا الـحضارية إلى أداء دور بناء في صنع السلام وحل النزاعات بالطرق السلمية والتشديد على العدالة في العلاقات الدولية.
ونحن لا نقف متفرجين إزاء استمرار تردي الأوضاع في بعض الدول الشقيقة، ونعمل ما بوسعنا للمساعدة في معالـجتها من منطلقات التضامن والـمسؤولية والاستقرار الإقليمي. ونشعر بالارتياح لأي تقدم في حل الـخلافات من خلال الـحوار بين الدول.
لقد باتت قطر تعرف اليوم بأنها وسيط موثوق به في صنع السلام وفض النزاعات عبر الحوار والدبلوماسية. وفي هذا الصدد نجدد ترحيبنا بالاتفاق الأمريكي الإيراني لتبادل الـمحتجزين، الذي تم بوساطة قطرية، وبسماح روسيا لأربعة أطفال أوكرانيين أن يلتحقوا بعائلاتهم في أوكرانيا بوساطة قطرية أيضاً. ونؤكد عزمنا على الـمضي قدماً في تسهيل الـحوار بين مختلف الأطراف تعزيزاً للأمن والسلم في منطقتنا والعالم.
كما يسعدنا أن نرحب مجدداً بالأشقاء قادة دول مجلس التعاون لدول الـخليج العربية في الدوحة في ديسمبر القادم، في قمته الـمقبلة، آملين أن تشكل تلك القمة منعطفاً هاماً في تعزيز عملنا الـمشترك، بـما يلبي تطلعات شعوبنا.
الإخــوة والأخــوات،
لا تحصل التنمية، ولا يحل الازدهار بإقرار التشريعات والسياسات من أعلى فحسب، بل يتطلب الأمر أيضاً حسن تنفيذها من جانب أجهزة الدولة الـمختلفة، وإدراك الـمواطن أهمية دوره في موقعه، ومسؤوليته الاجتماعية، وواجباته تجاه الوطن، وتوسيع مجال رؤيته واهتمامه ليشمل مصلحة المجتمع والدولة. هذا هو الـمضمون الأرقى للوطنية وحب الوطن.
لقد لاحظتم جميعاً مدى التقدم الذي نحققه حين تتكامل نظرتنا إلى أنفسنا مع صورتنا في الخارج، كما حصل إبان كأس العالم في قطر. ورأيتم أن التفاعل الإيجابي مع الخارج ينعكس على شكل تقدم في الداخل، والعكس صحيح.
هذا منطق صناعة الطاقة، والصندوق السيادي، والوساطات الدولية، وهذا أيضاً منطق التفاعل الحضاري بـما يشتمل عليه من تسامح وتقبل للتنوع. فالتفاعل الحضاري وتقبل الاختلاف ليس نقيض الهوية القطرية العربية الـمسلمة، بل يسهم في إنضاجها وتطويرها للتوافق مع تحديات العصر في كل مرحلة تاريخية.
والثابت هو التكامل بين الأخلاق في الحياة الخاصة والعمومية، وذلك بـمعنى الـمروءة والشهامة التي تشمل حب العدل والاستقامة والعطاء للمجتمع. وهذا يـمتد من اهتمامنا بالأسرة بوصفها اللبنة الأساسية لـمجتمعنا، وتربية أبنائنا والجيرة الحسنة والإخلاص في العمل وصولاً إلى التضامن مع القضايا العادلة التي بدأت بها كلمتي هذه.
ولا يسعني في ختامها إلا أن أتـمـنـى لـكـم فـصـلاً تـشـريـعيـاً مـوفـقـاً.
والـسـلام عـلـيكـم ورحـمـة الله وبـركـاتـه.