خطاب سمو الأمير المفدى في الجلسة الافتتاحية للمناقشة العامة للدورة ٧٦ بالأمم المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
سـعـادة رئـيـس الـجـمـعـيـة الـعــامــة،
سـعـادة الأمـيـن الـعـام للأمـم الـمـتـحـدة،
الـحــضـور الــكـرام،
يطيب لي أن أتوجه بالتهنئة لسعادة السيد عبدالله شهيد، لتوليه رئاسة الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة، متمنياً له التوفيق والنجاح في مهمته. كما أعرب عن تقديرنا لسعادة السيد فولكان بوسكير على جهوده في إدارة أعمال الدورة الخامسة والسبعين للجمعية العامـة.
وأتقدم بالتهاني لسعادة السيد أنطونيو غوتيريش على تجديد انتخابه أميناً عاماً للأمم المتحدة، ونؤكد دعمنا له في مهمته.
الـحـضـور الـكـرام،
يرسل اجتماعنا اليوم تحت عنوان "استعادة الأمل"، ولقاؤنا حضورياً، وليس عن بعد، إشارةً مهمةً بشأن العودة إلى مسار الحياة العادي، من دون التخلي عن وسائل الحماية والوقاية بالطبع؛ وذلك بعد فترة عصيبة عاشها العالم ولايزال جراء جائحة كوفيد-19 التي خلفت ملايين الضحايا وأزمات إنسانيةً واجتماعيةً واقتصاديةً لا حصر لها.
لقد أظهر هذا الامتحان الصعب الذي لا تزال الإنسانية تتعرض له ثغرات ونقاط ضعف في نظام أمننا الجماعي، وألهمنا، في الوقت نفسه الكثير من الدروس، ومنها أهمية الموازنة بين الحرص على صحة الناس ودوران عجلة الاقتصاد الذي يؤمن مصادر عيشهم في الوقت ذاته، وكذلك أهمية التكامل بين دور الدولة الذي لا غنى عنه داخل حدودها من ناحية، ودورها في مواجهة القضايا العابرة للحدود والالتزامات المشتركة لمواجهة التحديات والأزمات والكوارث من ناحية أخرى.
إننا نؤكد دعمنا لتحقيق الأولويات الواردة في الرؤية المطروحة لهذه الدورة، ونشدد على ضرورة التوزيع العادل للقاحات، وضمان وصولها إلى بلدان الجنوب، وتأمين العلاج للجميع، وكذلك ضرورة تنسيق الجهود في مكافحة وباء آخر هو وباء الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة والتشكيك غير المسبوق في جدوى اللقاحات الذي اجتاح العالم أيضاً إبان هذه الجائحة، والذي ما زال يعيق الانتشار الضروري للقاحات في ظروف استمرارها.
وأشير هنا إلى أن دولة قطر قد اتبعت نهجاً متوازناً وفعالاً في التصدي للجائحة وآثارها الصحية والاقتصادية على المستوى الوطني. وقد بينت التجربة أن النجاح في هذه المواجهة مرهون بسياسات الدولة ومقدراتها، ولا سيما في مجال الصحة العامة، وأيضاً بدرجة المسؤولية التي يتحلى بها المواطنون ومستوى وعيهـم.
وانطلاقاً من شراكتنا مع الأسرة الدولية لمواجهة الأزمات العالمية، لم تتوان دولة قطر عن تقديم الدعم للمؤسسات الدولية المعنية والوقوف مع الدول المتأثرة بالجائحة؛ حيث واصلنا تقديم الإمدادات الطبية وتلبية احتياجات أخرى ذات صلة بمواجهة الوباء، وذلك عبر التحالف العالمي للقاحات والتحصين (جاڤي)، ودعم منظمة الصحة العالمية والمبادرة الإنسانية لتوفير اللقاحات للفئات الأكثر ضعفاً والدول الأكثر احتياجاً.
الـحـضـور الـكـرام،
يشغل موضوع النزاعات الأمم المتحدة ويلقي على كاهلها أعباءً كثيرةً منذ تأسيسها. وتشكل منطقة الشرق الأوسط، للأسف، مصدراً لقسم كبير من هذه الأعباء. ولذلك تعتبر قطر الإسهام في مجال الحل السلمي للنزاعات من أولوياتها، بما في ذلك طرح تصورات للأمن الجماعي، فلا أمن ولا استقرار ولا تنمية ولا حياةً إنسانيةً كريمةً في ظل النزاعات.
لقد حرصنا دائماً على إحلال مناخ السلام والاستقرار والتعاون في المنطقة، فمثلاً على مستوى الخليج، بيئتنا المباشرة، أكدنا مراراً على أهمية مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والتزامنا بتسوية أية خلافات عن طريق الحوار البناء.
وقد أتى إعلان العلا الذي صدر عن قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في شهر يناير الماضي تجسيداً لمبدأ حل الخلافات بالحوار القائم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل. ونحن واثقون من ترسيخ هذا التوافق الذي حصل بين الأشقاء.
ومن ناحية أخرى نرى أنه لا حل للخلافات والاختلافات في وجهات النظر مع إيران إلا بالحوار العقلاني على أساس الاحترام المتبادل. وينطبق ذلك على مسألة العودة للاتفاق النووي مع إيران. ولا أعتقد أنه يتوفر لدى أحد بديل لهذه المقاربة، بمن في ذلك من يعارضون العودة إلى الاتفاق.
الـحـضـور الـكـرام،
شهد هذا العام انتهاكات إسرائيليةً عديدةً في القدس الشرقية المحتلة وتكرار الاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية، وبالأخص الحرم القدسي الشريف خلال شهر رمضان المبارك، والاستيلاء على منازل الفلسطينيين في إطار سياسات التهويد والاستيطان. وتبع ذلك تصعيد عسكري خطير في قطاع غزة أوقع المئات من الضحايا من المدنيين العزل وتسبب في تفاقم الوضع الإنساني المتردي أصلاً في القطاع.
يتحمل المجتمع الدولي مسؤولية تحقيق تسوية سلمية شاملة وعادلة للقضية الفلسطينية بإقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إلى جانب دولة إسرائيل وإنهاء احتلال الأراضي العربية، والحل العادل لمسألة اللاجئين. هذا ما توافق عليه المجتمع الدولي منذ عقود، ولكنه لا يجد طريقه للتطبيق على الرغم من مخاطر بقاء هذه القضية دون حل.
وكنتيجة لهذا التسويف المتواصل يظهر من حين لآخر من يعتقد أنه يمكن تهميش القضية الفلسطينية على جدول الأعمال الدولي، أو أنه يمكن الالتفاف على قضية وطنية عميقة الجذور بطرح أفكار مثل تحسين الوضع الاقتصادي للسكان تحت الاحتلال بدلاً من إزالة الاحتلال.
ومؤخراً، جاءت قضية ترحيل أهالي الشيخ جراح وسلوان واقتحامات المسجد الأقصى من طرف المستوطنين وردود الفعل الشعبية الفلسطينية والعربية والعالمية الغاضبة لتؤكد من جديد على مركزية القضية الفلسطينية، وأنه لا سبيل للالتفاف عليها.
الـحـضـور الـكــرام،
لقد شكل قرار الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد مفاوضات مع حركة طالبان منعطفاً هاماً للغاية بالنسبة لهذا البلد. وتقع على عاتق الشعب الأفغاني بجميع أطيافه أولاً، وعلى المجتمع الدولي ثانياً، مسؤولية العمل على نحو منهجي ومثابر لتحقيق التسوية السياسية الشاملة، وتمهيد الطريق أمام الاستقرار في هذا البلد الذي عانى طويلاً من ويلات الحروب.
وكما تعلمون، لم تدخر قطر جهداً في المساعدة على إجلاء آلاف الأفراد والعائلات من جنسيات مختلفة خلال الأسابيع الماضية. كان هذا واجبنا الإنساني، لكن الأمر الأهم الذي أود الإشارة إليه، هو أننا كنا واثقين بأن الحرب لا تشكل حلاً، وأنه في النهاية سوف يكون هناك حوار. وتصرفنا على هذا الأساس حين استضفنا مكتب طالبان عندما طلب منا شركاؤنا الدوليون فتح ورعاية حوار مباشر بينهم وبين طالبان في الدوحة، وقد ثبتت صحة هذا الموقف.
وسوف نواصل، بالتنسيق مع شركائنا الدوليين، تقديم ما في وسعنا لضمان الحفاظ على المكاسب الملموسة التي تحققت ضمن مسار الدوحة، ومن الضروري أن تلتزم الأطراف بتعهداتها خلاله.
وتؤكد دولة قطر على موقفها الثابت بشأن ضرورة حماية المدنيين واحترام حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب وتحقيق حل سياسي شامل لضمان الأمن والاستقرار لما فيه مصلحة الشعب الأفغاني الشقيق.
ونشدد هنا على أهمية استمرار المجتمع الدولي في تقديم الدعم لأفغانستان في هذه المرحلة الحرجة، وفصل مجال المساعدات الإنسانية عن الخلافات السياسية. كما نؤكد على ضرورة استمرار الحوار مع طالبان، لأن المقاطعة تؤدي فقط إلى الاستقطاب وردود الفعل، أما الحوار فيمكن أن يأتي بنتائج إيجابية.
ليست المسألة في أفغانستان مسألة انتصار ولا هزيمة، بل مسألة فشل فرض نظام سياسي من الخارج. وبغض النظر عن النوايا والجهود التي بذلت والأموال التي استثمرت، انهارت هذه التجربة في أفغانستان بعد عشرين عاماً.
وقد توصل العالم إلى استنتاجات صحيحةً في هذا الشأن. ولكن من الضروري تجنب الانزلاق إلى التطرف المضاد بتخلي الدول الكبرى عن واجباتها في قضايا السلم العالمي وضمان تنفيذ المواثيق الدولية وحماية المدنيين من جرائم الحرب. فثمة فرق بين فرض الوصاية على الدول الأخرى وبين قيام الدول الكبرى بواجباتها في تنفيذ القرارات والمواثيق الدولية، كما لا يعقل أن تفرض دول كبرى على دول أخرى شكل النظام السياسي الذي تراه مناسباً لها بقوة السلاح من ناحية، وأن تتخلى من ناحية أخرى عن دعم دول توصلت إلى نفس نظام الحكم المنشود بإرادة شعوبها، ومن دون تدخل خارجي.
الـحـضـور الـكـرام،
لقد مر عقد من الزمان على الأزمة في سورية التي بدأت بانتفاضة سلمية وتحولت إلى كارثة إنسانية بسبب الحرب التي شنها النظام على شعبه، والقوى المسلحة المتطرفة التي استغلت ذلك. ويحمل استمرار الأزمة مخاطر كبيرة ًعلى سوريا نفسها وعلى السلم والأمن في المنطقة والعالم، بما في ذلك تفاقم خطر الإرهاب.
لا يجوز إهمال القضية السورية، ولا إدارة المجتمع الدولي ظهره لمعاناة الشعب السوري مثلما حصل مؤخراً إبان قصف مدينة درعا وغيرها. وقد يأتي يوم نتذكر فيه هذا الإهمال لمعاناة البشر من الظلم بأسف شديد.
يتعين على المجتمع الدولي مضاعفة الجهود لإنهاء هذه الأزمة من خلال الحل السلمي وفقاً لإعلان جنيف-1، وتنفيذ قرار مجلس الأمن 2254 بجميع عناصره والمحافظة على وحدة سوريا الإقليمية والوطنية وسيادتها واستقلالها.
وفي الشأن الليبي فإن التطورات الإيجابية التي شهدتها ليبيا خلال العام المنصرم تبعث على تفاؤل حذر. فوقف إطلاق النار وانعقاد منتدى الحوار السياسي الليبي وصولاً إلى انتخاب ممثلي السلطة التنفيذية المؤقتة ونيل حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة ثقة مجلس النواب، كلها تطورات إيجابية، ونحن ندعو الأطراف الليبية كافةً للحفاظ على هذه المكاسب، وضمان التنفيذ الكامل لما تم الاتفاق عليه على المسارات السياسية والاقتصادية والأمنية، وإنجاح عقد الانتخابات والعمل على تحقيق المصالحة الشاملة.
وبالنسبة للأزمة في اليمن حيث أدت الحرب إلى وضع إنساني مأساوي، ومخاطر تقسيم قد تفضي بدورها إلى تفجر صراعات أخرى، تؤكد دولة قطر حرصها على وحدة اليمن وسلامة أراضيه، وموقفها الثابت بأن السبيل الوحيد للخروج من الأزمة هو من خلال التفاوض بين الأطراف اليمنية على أساس مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة وبخاصة القرار 2216.
الـحـضـور الـكـرام،
يصادف هذه الأيام مرور خمسين عاماً على انضمام قطر إلى الأمم المتحدة في الحادي والعشرين من سبتمبر 1971. وخلال العقود الخمسة الماضية تميزت العلاقة بين قطر والمنظمة الدولية بالتعاون الوثيق، وإقامة شراكات نموذجية في مختلف المجالات. فرهان قطر على المؤسسات الدولية والتعاون المتعدد الأطراف هو رهان استراتيجي. وفي هذا الإطار نؤكد على مواصلة الإسهام بدعم كيانات الأمم المتحدة، والوفاء بتعهداتنا في القضايا التي حددها المجتمع الدولي كأولويات في هذه المرحلة.
إننا سعداء أن تكون الدوحة عاصمةً للعمل الدولي المتعدد الأطراف في منطقتنا التي هي في أمس الحاجة لعمل وجهود وكالات الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، حيث بدأت مكاتبها في الدوحة بالعمل، وفي هذا السياق، فإننا نتطلع لافتتاح بيت الأمم المتحدة في الدوحة قريبًا.
وبمناسبة الحديث عن الأمم المتحدة والقضايا العالمية التي تواجه الإنسانية جمعاء والتي تبرز الحاجة إلى دورها، أشير هنا إلى مشاركة دولة قطر في الجهود الدولية في مكافحة الإرهاب ومعالجة أسبابه من خلال دعم التعليم، ومعالجة الفقر والبطالة بين الشباب، وحل النزاعات التـي تشكـل أيضـاً مولـداً للإرهـاب.
كما أشير إلى تزايد اعتماد العالم على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الحديثة في كافة مناحي الحياة من التعليم وحتى الأمن والاقتصاد. ولكن في المقابل، استشعر العالم الآثار المترتبة على اساءة استخدام الفضاء السيبراني، بما في ذلك اختراق مجال الأفراد الخاص والقرصنة الدولية، وما يشكله ذلك من تهديد خطير ينعكس على أمن واستقرار المجتمع الدولي.
ومن هذا المنطلق نجدد الدعوة للأمم المتحدة لتقود عملية توحيد الجهود لمنع سوء استخدام التقدم العلمي في مجال الأمن السيبراني، وتنظيم هذا الجانب الحيوي استناداً لأحكام القانـون الدولـي.
الـحـضـور الـكـرام،
يظل تغير المناخ من أهم التحديات الخطيرة في عصرنا، بما يحمله من آثار كارثية على جميع جوانب الحياة للأجيال الحالية والقادمة، مما يستلزم مواصلة جهودنا المشتركة لمواجهة هذه الآثار، ونتطلع أن يكون مؤتمر الأمم المتحدة COP26 القادم في غلاسكو بالمملكة المتحدة نقطة تحول نحو تحقيق طموح المجتمع الدولي.
وفي هذا الصدد نشير إلى أن دولة قطر وضعت تغير المناخ في مقدمة أولوياتها، وتواصل اتخاذ الإجراءات اللازمة لتطوير التقنيات المتصلة بتغير المناخ والطاقة النظيفة. وسوف نعرضها على ذلك المؤتمر في نوفمبر القادم.
ختاماً، فإن مسؤوليتنا المشتركة والمصير الواحد للإنسانية يستوجبان تكريس قيم الشراكة في العلاقات الدولية لتحقيق مصلحة شعوبنا وخير الإنسانية.
أشـكـركـم والـسـلام عـلـيكـم ورحـمـة الله وبـركـاتـه.